آفات عقائدية

ظل الجدل حول آية السيد المسيح الناصري (عليه السلام) في إحياء الموتى دائرا ولا زال إلى الآن، على الرغم من دخول الألفية الثانية منذ ظهور تلك الآيات على يديه (عليه السلام) أول مرة، وليس الإنكار لأصل تلك الآيات من جانب طائفة من المتدينين بقدر ما هو إنكار لأسلوب فهم تلك الآيات لدى السواد الأعظم من الناس من أتباع الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. وقد بلغ الأمر من سوء الاعتقاد مبلغا أمست فيه الآيات التي كانت دليل صدق المسيح الناصري كنبي مرسل من عند الله تعالى لنجاة الخلق، هي نفسها تقدم كشهادات زور على ألوهيته المزعومة، الأمر الذي بات دليل ضرورة ملحة لأن يبعث الله تعالى من يعدل الموازين ويكشف حقيقة الأمر، وذلك بناء على سنته القديمة، فكان بعث المسيح الموعود. ولسنا بصدد دحض الفهم التقليدي لمسألة إحياء الموتى بقدر ما نحاول في كلمات قليلة بيان حقيقتها المُومأ إليها في القرآن المجيد. فبداية يجب الإقرار أن المسيح (عليه السلام) قد أحيا بعض الموتى بالفعل، ولكن، أليس لنا أن نتساءل عن ماهية أولئك الموتى؟! جميع المصادر المسيحية لا تملك دليلا على إحياء المسيح الناصري للموتى غير بضعة أسطر مسجلة في الأناجيل، ولا تنفع دليلا وحجة دامغة على تلك الوقائع، اللهم إلا على من رآها بأم عينيه، فما بالنا بالمجتمعات الغربية الحديثة ذات التوجهات الإلحادية!

المؤمنون في أية عقيدة تصيبهم بمرور الوقت آفة عقائدية تتمثل في سوء فهمهم القائل بأن الآيات مجرد معجزات بنات وقتها، تحدث لبيان صدق نبي، وسرعان ما ينقضي خبرها وينصرف المتفرجون، ثم لا يبقى من تلك الآيات المعجزة سوى أسطر تتناقلها الأسفار حتى تتحول هي نفسها إلى أساطير فتمسي دواعي شرك بعد أن كانت دلائل تنزيه وتوحيد لله رب العالمين. بينما الآيات في حقيقتها علامات صدق، والعلامة إنما اكتسبت صفتها من بقائها واستمرار وجودها حينا من الزمان، بحيث تكون حجة سواء على الحاضر المشاهِد، أو الغائب المبلَّغ، من هذا المنطلق ينادي بعض المتدينين من أصحاب التوجه العقلاني بضرورة إعادة النظر في فهم الآيات عن بكرة أبيها.

الموتى أم الأموات؟!

ذات مرة قال لي أحدهم: المسيح (عليه السلام) أحيا ميتا مخرجا إياه من قبره! فقلت: هل رأيت هذا بأم عينيك؟! لو أجبت بنعم، لكان الأمر حجة عليك وحدك، ولو أجبت بلا، فبأي حق تطالبني بالإيمان بما ليس في يدك عليه برهان؟!

وفي لحظة ما تبادلنا الأدوار، وأعارني زعمه، فقلت له: نؤمن إيمانا يقينيا أن المسيح الناصري أحيا الموتى، فانفرجت أساريره لولا أني عاجلته مستدركا بلكن: أي موتى أولئك الذين أحيوا على يد المسيح الناصري؟! إن شأنهم شأن كل الموتى الذين نالوا الحياة على أيدي من سبق ومن لحق من النبيين (عليهم السلام)، وبيان ذلك أن الموتى غير الأموات، وبين اللفظتين بون شاسع من الاختلاف في المعنى المقصود، مما يعطي مدلولا مختلفا تماما للسياق الذي ترد فيه إحدى اللفظتين، وهنا مربط الفرس.

وخلاصة الفكرة أن لفظة “أموات” تشير إلى معنى انتفاء الصفات الحيوانية المعروفة (عن الإنسان خصوصا) من تنفس ونمو وحركة، وما يستتبع هذا من مفارقة العالم الحسي، ولهذا وردت لفظة “أموات” في التنزيل الحكيم في ستة مواضع، جميعها في حق الإنسان على وجه التحديد، وهي:

  1. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[1]
  2. {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}[2]
  3. {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[3]
  4. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[4]
  5. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[5]
  6. {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}[6]

بيما نجد الأمر مختلفا إذا ما تناولنا لفظة “موتى”، والتي تعبر عن انتفاء صور الحياة الروحية والملكات والقوى التي تجعل الكائن البشري متميزا عن سائر الكائنات الحية الأخرى بحياة روحية وطبيعة عقلية جعلته مستعدا للتعامل مع الوحي الإلهي الذي بتلقيه يتدرج الإنسان في مدارج الحياة الأعلى. ونجد لفظة “موتى” قد وردت في التنزيل الحكيم 17 مرة في سياقات متنوعة، فتارة تشير إلى أناس فقدوا روحانيتهم، وآخرين تعطلت ملكاتهم العقلية، أو ضاعت أمجادهم الدنيوية، وتارة تشير اللفظة ذاتها إلى انتفاء مظاهر الحياة المحسوسة عن الدواب والأنعام والنبات، وهي:

  1. {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}[7]
  2. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}[8]
  3. {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}[9]
  4. {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}[10]
  5. { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[11]
  6. {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}[12]
  7. {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[13]
  8. {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}[14]
  9. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[15]
  10. {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}[16]
  11. {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[17]
  12. {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}[18]
  13. {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[19]
  14. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[20]
  15. {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[21]
  16. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[22]
  17. {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[23]

بإعادة قراءة الآيات القرآنية المذكورة آنفا، نلحظ ما من شأنه إلقاء المزيد من الضوء على الفارق الدقيق بين “موتى” و”أموات”، ذلك أنّ لفظة “أموات” وردت مصاحبة للفظة “أحياء” في علاقة تضاد، وذلك في خمس آيات من أصل ست، بينما لم يرد مثل هذا التضاد مع لفظة “موتى” ولا مرة واحدة، في حين وردت أغلب سياقات لفظة “موتى” مصاحبة لصيغة المضارع (يُحْيِي) الدالة على الاستمرارية حالا واستقبالا، بمعنى أن إحياء الضالين وتنوير العقول والقلوب وهداية الأمم سنة إلهية جارية ومستمرة في الخليقة ويمكن لذوي البصائر معاينتها دوما، ولم ترد هذه الاستمرارية مع “الأموات” في إشارة واضحة إلى أن الأموات لا يعودون مطلقا إلى هذا العالم، وهذا بناء على سنة الله الحكيم المتقررة أيضا.

 

ماذا عن الروايات الحديثية؟

لم تقف الأحاديث النبوية بمنأى من التمييز بين لفظتي “أموات” و”موتى”، وباستعراض السياقات التي أوردت لفظة “أموات” نجد الآتي:

  1. “إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنْ الْأَمْوَاتِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا”[24]
  2. “لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا”[25]
  3. “لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ “[26]
  4. وحين سُئل النبي: “يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُنَادِي نَاسًا أَمْوَاتًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا قُلْتُ مِنْهُمْ”[27]
  5. ويروى أنه حين اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ قَالَ: “وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا” فَقِيلَ لَهُ تَدْعُو أَمْوَاتًا فَقَالَ: “مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ”[28]

لا شك أن لفظة “أموات” في جميع الروايات الخمس المذكورة  من بين 28 رواية (بعد حذف المكرر وأحاديث التفسير) جاءت في سياق الانتقال إلى العالم الآخر ومواراة اللحد للجسد المادي.

 

النتيجة: كل النبيين أحيوا موتاهم

نعود إلى الحديث عن المسيح الناصري، فندهش أن القرآن لم يذكر في أي من المواضع المتعلقة به أنه (عليه السلام) أحيا أيًّا من الأموات، وإنما كانت آيته (عليه السلام) متمثلة في إحياء “الموتى” لا الأموات، لذا كان على أصحاب الفهم التقليدي الأسطوري التوقف لبرهة وإعادة النظر في هذه القضية.

وبعث الحياة في الموتى آية من آيات الله تعالى يجريها على أيدي رسله (عليهم السلام) لتكون دليلا قائما وعلامة باقية على قدرته عز وجل، لا أن يراها جمع من الناس في جيل سبق وتُحْرَم منها الأجيال اللاحقة، في حين أن الجميع مطالب بالإيمان.

إجالة النظر في التاريخ وتأمل حالة اليهود الاقتصادية والسياسية والفكرية والروحانية قبيل بعث المسيح الناصري بين ظهرانيهم تدعونا إلى التسليم بأن هذا الشعب كان قد وصل إلى حالة التدني الحضاري بكل ما لكلمة التدني من معنى، حتى إننا لا نعدو الصدق لو قلنا أنهم كانوا في حالة موت محقق. فكان أن بَعَثَ فيهم الحي القيوم من يضطلع بمهمة إحيائهم من جديد، كما يفعل كل نبي مع قومه، وهذا أكثر ما يشغل بال النبي في زمنه، تماما كما كان حال حضرة إبراهيم (عليه السلام) إذ ورد حكاية عنه في التنزيل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}[29]، وكذلك في تساؤل النبي حزقيال (عليه السلام): {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}[30].

لقد باتت تعاليم التوراة في حكم الميت بعد أن صارت محض تقليد على مدى القرون وابتعد أتباعها عن روحها ومقاصدها، حتى إنهم اتهموا مسيحهم بالهرطقة والتجديف إذ رأوه يخدم العامة في السبت. لقد نسوا أو تناسوا أن حرمة السبت في أن تؤدى فيه أعمال تعود بنفع شخصي على فاعلها، أما إذا كان النفع لخلق الله موساة لهم فالقعود عن تلك المواساة هو العدوان في السبت {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[31].

لنا الآن بعدما أسلفنا أن نتصور بكل تنزيه ماهية “موتى” المسيح الناصري، وطبيعة الحياة التي بعثت فيهم. فننتقل لنرى نظائر ذلك الإحياء عند المسيح المحمدي الموعود (عليه الصلاة والسلام)، ومن ثم نخلص إلى أن مسألة إحياء الموتى ليست قصرا على نبي دون نبي، ولو جاز لأحد الافتخار بالإحياء الذي أجراه الله تعالى على يديه، فإنه سيدنا محمد النبي الخاتم (صلى الله عليه وسلم) والذي إذا أردنا الاطلاع على شيء من آثار فيضه المحيي فلنقرأ بعضا مما ذكره مسيحه الموعود (عليه الصلاة والسلام) في شأنه (صلى الله عليه وسلم):

أحييتَ أمواتَ القرون بـجَلوةٍ            ماذا  يماثلك بـهـذا الشَّانِ؟![32]

وقال أيضا في نفس القصيدة:

إني لقد أُحيِيتُ مِـن إحـيائه                  واهًا  لإعجازٍ فما أَحْـياني![33]

يبدو لي أن المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) قد فطن إلى هذا الفارق الدقيق بين لفظتي “موتى” و”أموات” فعبر أجمل تعبير عن الإحياء المنسوب إلى حضرة خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم) مستعملا لفظة “أموات” مع قرينة صارفة عن معنى مفارقة العالم ومواراة التراب، فقال: “… أموات القرون” في إشارة قوية إلى أنه (صلى الله عليه وسلم) كما لو أنه أخرج العالم من لحده بالفعل، وأن إحياءه أعظم شأنا من إحياء من خلوا من قبل من النبيين. نعم، إن إحياءه (صلى الله عليه وسلم) بلغ من قوته وعظمته أن ورَّث الإحياء لتابعه الكامل، حتى إنني ليروق لي قراءة “أحييت” بصيغة البناء للمعلوم (ولو تجاوزا) كالتالي:

إني لقد أَحْيِيتُ مِـن إحـيائه                  واهًا  لإعجازٍ فما أَحْـياني!

وكأن حضرته يخبرنا أنه صار بدوره محييا للموتى بعد إحياء سيده وحبيبه له. فما أعجب هذا الإحياء الذي به صار حيا ومحييا في آن. وكيف لا يكون من نال الحياة على يد النبي الخاتم محييا وقد قال حضرت المسيح الموعود في معرض كلامه عن القرآن المجيد: ” من شرب منه فهو يحيا بل يكون من المحيين”؟!

ولا يتطرقن إلى الذهن وسوسة أنَّ الله تعالى يحيي الموتى بينما يعجز (وحاشاه) عن إحياء الأموات.. بل ليس ثمة داع أصلا للقلق بهذا الصدد. لا شك أن الله تعالى هو القادر وحده على كل شيء، وهو وحده القادر على إحياء الأموات أيضا، وعدم ذكر الشيء لا يُفهَم منه عدم وجوده بالضرورة، بمعنى أنه تعالى إن لم يذكر أنه يحيي الأموات، فينبغي ألا يتطرق إلى أذهاننا أنه غير قادر على ذلك، ولكنه مع قدرته المطلقة فهو الحكيم كذلك، ومقتضيات حكمته (عز وجل) وضع اللفظ في موضعه.

قد يتحفظ البعض بإزاء هذه القضية بحجة أن فيها تقييدًا لمعنى الإحياء في هذه الآيات التي تخص الله تعالى بالإحياء الروحاني دون المادي، في حين أن هذا التقييد غير وارد أصلا، ولدفع القلق بهذا الشأن نورد مقتبسا لحضرة المصلح الموعود (رضي الله عنه) في معرض تفسيره لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} الآتي: “{… وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا…..}  أي عدما بلا حياة ولا وجود، {…فَأَحْيَاكُمْ…..} أي وهبكم الحياة وأوجدكم من عدم”[34]، فيثبت بوضوح أن الله سبحانه قادر بلا أدنى شك على إحياء الأموات، بل إنه القادر الوحيد، ولا محيي للأموات سواه (جل شأنه)، وهذا هو جوهر الفكرة، أي تنزيهه سبحانه من أن يكون هناك من يحيي الأموات سواه، وأن غاية ما منحه المحيي سبحانه وتعالى لعباده المصطفين الأخيار هو إحياء الموتى، بينما إحياء الأموات صفة تنزيهية له سبحانه وتعالى حصرا.

 


 

[1]  (البقرة: 29)

[2]  (البقرة: 155)

[3]  (آل عمران: 170)

[4]  (النحل: 21-22)

[5]  (فاطر: 23)

[6]  (المرسلات: 26-27)

[7]  (البقرة: 74)

[8]  (البقرة: 261)

[9]  (آل عمران: 50)

[10]  (المائدة: 111)

[11]  (الأَنعام: 37)

[12]  (الأَنعام: 112)

[13]  (الأَعراف: 58)

[14]  (الرعد: 32)

[15]  (الحج: 7)

[16]  (النمل: 81)

[17]  (الروم: 51)

[18]  (الروم: 53)

[19]  (يس: 13)

[20]  (فصلت: 40)

[21]  (الشورى: 10)

[22]  (الأَحقاف: 34)

[23]  (القيامة: 41)

[24]  (مسند أحمد, كتاب باقي مسند المكثرين)

[25]  (صحيح البخاري, كتاب الجنائز)

[26]  (سنن الترمذي, كتاب البر والصلة عن رسول الله)

[27]  (مسند أحمد, كتاب مسند المكثرين من الصحابة)

[28]  (صحيح البخاري, كتاب الجنائز)

[29]  (البقرة: 261)

[30]  (البقرة: 260)

[31]  (البقرة: 66)

[32] البيت من قصيدة لحضرة مرزا غلام أحمد القادياني (عليه الصلاة والسلام) في كتابه “التبليغ”

[33]  نفس المرجع السابق

[34]  مرزا بشير الدين محمود أحمد – التفسير الكبير، مجلد 1، صفحة 176 – الطبعة العربية