الدَّولة القوميَّة العراقيَّة في زمنِ الطَّوائف

ظهرت الدَّولة القوميَّة في القارَّة الأوربيَّة بعد المحن والحروب الدينيَّة التي اجتاحت أوروبا وأهلكت الحرث والنَّسل، والتي كان سببها الصِّراع الدِّيني والكهنوتي بين المسيحيِّين في أوروبا , وظهرت الدَّولة القوميَّة بعد ظهور نظريَّات عدَّة ,وفلسفات عدَّة كآدم سميث ,والحركة البروتستانتيَّة وغيرها من الأحداث التي ساهمت بتشكيلِ معالم الدُّول القوميَّة التي استطاعت أن تحُقق إنجازاً كبيراً ألا وهو حصر الدِّين في الكنائس وعدم السَّماح له بالدخول والتدخُّل في الحياة السياسية، ولكن الصِّراع في أوروبا لم يتوقَّف بظهور الدُّول القوميَّة إنما اشتدَّ بسبب التَّنافس القوميِّ على المجال الحيويِّ، وعلى المغانم الاستعماريَّة والرغبة بالسَّيطرة وبسط النُّفوذ القوميِّ فأصبح الصِّراع يكتسي بالحلَّة القوميَّة بعد أن كان يصطبغ بالحلَّة الدينيَّة، وجاءت الحربين العالميَّتين لتُظهران الوجه القبيح للصِّراع القوميِّ وتؤكِّد على أنَّ أسباب الصِّراع ليست بسبب الدِّين ولا غيره إنما بسبب أطماع البشر التي يغلفها بأغلفةٍ تماشي العصر، سواء ًكانت دينيَّة أو قوميَّة.
ولقد ظهرت الدُّول القوميَّة في الوطن العربي بعد انهيار الدُّول العثمانيَّة، ونتيجة لاتِّفاقيَّة سايكس بيكو وحركات التَّحرر التي قادها القوميُّون في معظم البلدان العربيَّة وواجهت تلك الدُّول مصاعب جمَّةً في تشكيل الدَّولة الحديثة وبناء مؤسَّساتها وإقرار دساتيرها وقوانيها الضَّابطة للتَّدافع الاجتماعيِّ فيها، واستطاعات أن تحقِّق إنجازات كبيرة وعظيمة في تحقيق التَّنمية في تلك المجتمعات، والتي عانت من سياسات الإفقار التي مارستها ضدَّها الدَّولة العثمانيَّة، وقد كان العراق من أوائل الدُّول التي شكَّلت الدَّولة القوميَّة في عام 1921 ونجح القوميُّون الأوائل كفيصل والهاشميِّ ونور السَّعيد والعسكريِّ من بناء أرقى الدُّول وأنجح التَّجارب القوميَّة في البلدان العربيَّة، واستطاعوا من خلال توظيفِ علاقاتهم الجيِّدة مع البريطانيِّين بناء العراق الحديث والمجتمع المدني المتحضِّر، وإقرار الدَّساتير وبناء تجربة حكم ديمقراطيٍّ ناجحٍ في العراق على أساسٍ برلمانيٍّ، ورغم أنَّ العديدَ من الكتَّاب والباحثين في المجال السياسيِّ ينتقدون تلك التَّجربة الدِّيمقراطية ويتَّهمونها بالصُّورية إلَّا أنَّهم أغفلوا جانباً مهمَّاً ألا وهو دراسة الظُّروف الموضوعيَّة التي كان يمرُّ بها العراق وضعف الوعي الاجتماعي بعد قرون التَّخلُّف التي مرَّ بها العراق، وبالتَّالي كان لا بدَّ من وجود نظامٍ يكفل المظاهر الدِّيمقراطية وبنفس الوقت يحقِّق السُّلطة الأبويَّة، وقد استطاع النِّظام أن يحقِّق الأهداف المرسومة له ويبني المجتمع العراقيَّ على أساسٍ مدنيٍّ ضمن فيه حرية الصَّحافة والعمل السِّياسي والانتقال السِّلمي للسُّلطة و أسَّس نظاماً تعليميَّاً يُفخرُ به إلى الآن وحقَّق إنجازات كبيرةً على المستوى الاقتصاديِّ، وعلى مستوى البنيان التَّشريعيِّ وطور الزِّراعة وأسَّس لقيام صناعة وطنيَّة محترمة وأسَّس أيضاً جيشاً وطنيَّاً مدرَّباً وقويَّاً بامتياز غير أنَّ هذا النِّظام ما لبث بعد أن تقدَّم العمر ببناته و دبَّت فيه الشَّيخوخة وما عاد يستطيع الصُّمود أمام ديماغوجيَّة الجيل الثَّاني من القوميِّين الذين تاثَّروا بأفكار ماركس ولينين وجيفارا، فخلقوا تيَّاراً شعبويَّاً مناهضاً للسُّلطة من أجل السُّلطة، بحجَّة تحرير فلسطين واقامة الحلم العربيِّ , بإنشاء الدَّولة العربيَّة الواحدة وغيرها من الشَّعارات الزَّائفة، التي استطاعت أن تحشد خلفها الملايين خاصَّة وأنَّ نضح التَّجربة السِّياسية في الأنظمة القوميَّة الأولى لم يكتمل بعد، كما استغلت حالة الفقر والعوز التي كانت تشمل طبقاتٍ كثيرةٍ في المجتمع، والتي كان سببها نظام الاقطاع والسَّيطرة العثمانيَّة البغيضة على مقدرات المجتمع العربيِّ التي امتصت خيراته لاشباع نزوات المدعوِّ خليفة المسلمين وأطماعه التوسعيَّة، فضلاً على ظهور أنظمةٍ جديدةٍ من الحكم في صحراء الجزيرة العربية تمتاز بولائها المطلق للتَّاج البريطانيِّ، وثروة من النَّفط هائلةً وعددٌ قليل من النُّفوس البشريَّة، فخلقت تلك الدُّول لها في غضون فترةٍ قصيرةٍ وفوراتٍ من الموارد الماليَّة استغلَّتها فيما بعد لضرب الأنظمة العربيَّة العريقة في العراق لأهدافٍ تخدم التَّاج البريطانيِّ والبسطال الأميركي، ولإشباع عقدة النَّقص اللاشعورية التي كان يشعر بها ابن الصَّحراء أمام مدنيَّة المصريِّ والعراقيِّ والشاميِّ، فتواكبت كلُّ تلك الظُّروف وأطاحت بالدَّولة القوميَّة الأولى في العراق ومصر وغيرها، وحوَّلت النِّظام الملكيَّ إلى نظامٍ جمهوريٍّ وقد كان ذلك الانقلاب يشكِّل بدايةً للدُّخول في مرحلةٍ من العشوائيَّة ومن التَّخبُّط ومن الدَّجل السِّياسيِّ، ومن رفع الشِّعارات المزيَّفة، ولكن سرعان ما أكلت تلك الثَّورات أبناءَها، ودخلت تلك البلدان في أتون الانقلابات السِّياسيَّة، وظلَّت الدَّولة القوميَّة تترنَّح ولم يحقِّق الجيل الثَّاني من القوميِّين خاصَّة في العِراق أيَّ إنجازاتٍ تُذكر، بل كلُّ ما عملوه هو أنَّهم قطفوا الثِّمار التي زرعها القوميُّون الأوائل فسياسات وخطط مجلس الإعمار في العراق كانت هي الأساس لإنجازات عبد الكريم وعبد السَّلام، كذلك إنَّ ثمار السِّياسات التَّعليميَّة النَّاجحة والتي ارتكزت على بعثاتِ الطُّلاب العراقيِّين إلى أمريكا وبريطانيا للحصول على الدَّرجات العلميَّة الرفيعة، ساهم بخلق موارد بشريَّة فريدةً ساهمت في بناء العراق والحفاظ على مكتبساته في ظلِّ فوضى وديماغوجيَّة الجيل الثَّاني من القوميِّين العرب.
ولكن بعدَ ظهورِ دولة إيران الإسلاميَّة بدأ الصِّراع في المنطقَة يأخذ بُعداً طائفيَّاً عميقاً وخاصَّة بعد حرب تحرير الكويت، والانتهاء من قوَّة الجيش العراقيِّ التي كانت تُقلق الغرب، فتحوَّل الأمر إلى ضرورة خلق بُعبُع آخر لامتِصاص ثروات المنطقة والخليج العربي بالذَّات، وخلق بؤرِ صراعٍ تُشغِل العَرب عن فلسطين لذلك كانت إيران هي البديل الأقوى لصدَّام حُسين، بل كانت هي الأقوى من صدَّام حُسين واستطاعت أن تدير آليَّاتِ الصِّراع في المنطقة باستقدام الدبِّ الروسيِّ والمارد الصِّيني إلى المنطقة لتخلق حالة من التَّوازن الإقليمي في المنطقة، استطاعت بفضله أن تنتزع عواصم عربيَّة من سيطرة اللُّوبي الأمريكي فكانت بغداد وبعدها بيروت ودمشق وصنعاء واستطاعت أن تصل إلى القاهرة وتضرب في الصَّحراء اللِّيبيَّة وكذلك دكَّت أراضي فلسطين في الضِّفة وغزَّة.
هذا الاستعار الطائفيِّ الذي اندلع بعد سقوط نظام صدَّام حُسين أدلى بظلاله على مصير الدَّولة القوميَّة في كلٍّ من العراق وسوريا واليمن وغيرها من الدُّول.

فلم تستطع تلك الدُّول بتجاربها القوميَّة الفاشلة من تحقيق الهويَّة الوطنيَّة الخاصَّة بها بمعزَلٍ عن التَّاثيرات الخارجيَّة، ناهيك عن تحقيق حلم القوميَّة العربيَّة حتى تحوَّلت كلمة القوميَّة العربيَّة في العراق اليوم إلى مقام أبي رغال الذي يرجمه الحجَّاج كلَّ عام، واقتلع العراق من جلده القوميَّ ليتحوَّل إلى دولةِ طوائفَ متصارعة فيما بينها ,وكلُّ ما نشاهده الآن هو أطلالٌ للدَّولة القوميَّة المهترئة التي يحاول الطائفيُّون رفع سقفها بحرابهم لأنَّها تشكِّل لهم مظلة لبسط النُّفوذ الطَّائفيِّ بحجج الشِّعارات الوطنيَّة الزائفة، ولكن عاجلاً أم آجلاً ستسقط أسَّس الدَّولة القوميَّة وستحلُّ محلَّها الكانتونات الطَّائفية المُتصارعة، والتي ستتصارع خاصَّةً في مناطق التَّمازج الطَّائفيِّ في العراق ومن أهمِّها بغداد ومشاكِلها العميقة المتمثِّلة في حزامها العُثمانِيِّ العربيِّ السُّنيِّ والدَّاخل الذي تسيطر عليه الأغلبيَّة الشِّيعية، ومناطقَ أخرى في العراق تقع إلى الشَّمال من بغداد وإلى الجنوب الغربيِّ منها ومناطقَ أخرى أيضاً في شمال إقليم الوسط وغيرها التي احتوت المكوِّن الشِّيعي.
إنَّ أنصار الدَّولة القوميَّة الحالمون هم لا يقلِّون غباءً عن القوميِّين الديماغوجيين الذي حكموا العراق في الستِّينيَّات وما وراءها، وهم ورثتهم في الديماغوجية والغبَاء السِّياسيِّ، وأحنك منهم هم الطَّائفيُّون الذين ما زالوا يملكون خيارَ الدَّولة القوميَّة كحصان طروادة لتأسيس كانتوناتهم الطائفيَّة المُستقبليَّة.
ويبقى السؤال المهمُّ الذي ستُجيب عليه الأيَّام فقط: إلى أيِّ مدَى سينتشر هذا الصِّراع الطَّائفي في العراق ومن هو الذي يضع قواعد الصِّراع فيه والتَّمدُّد، فلا زال الأمن الاسرائيليِّ رخواً رغم أنَّ الجيوشَ العربيَّة الأقوى قد انهار اثنين منها (العراقيِّ، السوريِّ) وبقي المصريِّ الذي يُقاتل الآن في الدَّاخل فإشعال الأراضي حول إسرائيل بالقتال الطَّائفيِّ لا يضمن أنَّ إسرائيل لن تكتَوي بتلك النَّار أبداً، ولا أظنُّ أنَّ القائمينَ على حبائلِ السِّياسة العالميَّة قادرون على مسك أطراف تمدُّد النَّار إلى ما لا نهاية
القادمُ سيءٌ جدَّاً ولكِن لا العرَب ولا الغَرب يُبصرونه.