إن أكبر إساءة تعرض لها الإسلام في تاريخه هو تقزيمه من طرف المسلمين أنفسهم لجعله دينا من الأديان يشغل خانة في لائحة شأنه شأن باقي الإعتقادات والمناهج.

لقد قال تعالى: “وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ”.

“بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”

تعلن الآية الأولى بوضوح بأن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان أول المسلمين وهو من سمى الناس بالمسلمين. وتأتي الآية الثانية لكي تقدم التعريف الإلاهي السامي للمسلم وهو الإسم الذي يحوزه كل من أسلم وجهه لله وخارت قواه في عتبة الله واستطاع التخلص من شركيات الأرض الفردية والجماعية وانتصر على عنجهياته وكبره وثوائره النفسية، ثم ترجم هذه التزكية إلى إحسان عملي لخلق الله تعالى وعمل على نفعهم بكل ما أوتي من القوى والنعم.

إن هذا التعريف يخرج الإسلام من خندق المذهبيين والقوميين، كما أنه يجعله حائزا على طابع الرضى الإلاهي كونه متجرد من كل الهياكل الأرضية الدنيوية. كما أن الأهم هو جعله تعالى الإسلام حاضنا لكل المناهج وكل المعتقدات وكل الإيديولوجيات التي من شأنها أن تصل بالإنسان إلى مستوى إسلام النفس لله تعالى.

أما دين الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم فليس إلا تأطيرا للدين الإبراهيمي في إطار متكامل منسجم شامل يقدم السبل الكفيلة بتحقيق الهدف الأسمى وهو إسلام النفس والتجرد من ثوائرها مما يؤدي في النهاية إلى تحقيق الرقي الروحاني للأفراد والرقي المادي للجماعات. كما أنه يجيب بوحي قطعي يقيني من الله تعالى على أسئلة محورية اختلفت فيها كل التوجهات الفكرية والدينية ويكشف انحرافها عن أصلها الإبراهيمي. وهكذا فالإسلام المحمدي يقدم نفسه بأنه ذلك المنهج القويم الكفيل بإيصال الإنسان لمستوى الفطرة الإبراهيمية، دون غيره. و لعل هذا ما تشير إليه الآية القرآنية:
“إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِيُّ”.

حيث يجعل الله تعالى الولاية لإبراهيم عليه السلام من نصيب أتباعه أولا ثم من نصيب الرسول الأكرم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو المقام الذي حازه هذا الرسول دون غيره من الرسل كونه إبراهيم أمته.

هنا تتبادر إلى الذهن أسئلة كثيرة من قبيل:
1. ما معنى قوله تعالى: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً” ؟ أليس هذا معناه أن الله قد اختار لكل أمة دينا؟ أليس الإسلام دين من الأديان؟
2. ثم لماذا حصر الإسلام الهداية والنجاة في دين الإسلام دون غيره؟

أما بخصوص السؤال الأول فالآية: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً”، نفسها تقدم جوابا كاملا شافيا وافيا، فلكل أمة ظروفها وحيثياتها التاريخية والزمانية والمكانية وخصوصياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، ومن الطبيعي أن بلوغ مقام الإبراهيمية الذي هو الهدف، لا يمكن أن يتأتى بالشكل نفسه عن طريق منهج واحد قومي لا يأخذ بعين الإعتبار خصوصيات الأمة الموجه إليها ومواطن ضعفها.
فليس من المعقول مثلا انتظار التفصيل في أمور الحكم من طرف المسيح عليه السلام وقد بعث في زمن إندحار اليهود وخضوعهم لحكم الروم. كما ليس من المعقول الحديث عن الترقي الروحاني مع أمة لا تكاد تتخلص من سيئات الشذوذ الجنسي والمفاسد الأخلاقية. وهكذا فالله تعالى قد وهب لكل أمة دواءا يتناسب مع مرضها.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الله تعالى ذكر هنا الشرعة والمنهاج ولم يذكر الدين، وهذا أمر ينسجم تمام الإنسجام مع قوله تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ”.
فالدين عند الله الإسلام وهو الدين الذي يحوي كل الشرائع السابقة والذي لا تشكل في بحره العميق الواسع إلا موجات محدودة الزمان والمكان والتأثير. وإلا فلا يعقل أن يصير بقدرة قادر الرسول الذي بعث لبني إسرائيل حصرا رسولا للعالمين ضدا عن إرادته وعن مقدرة تعليمه ومنهاجه وصلاحيتهما.

أما السؤال الثاني الذي مفاده الهداية والنجاة وحصرها في دين الإسلام، فيصبح بعد كل ما سلف تحصيلا حاصلا، مع فارق بسيط يتمثل في ضرورة التمييز بين الهداية والنجاة.
فالشريعة المحمدية يقدمها القرآن الكريم بأنها منتهى سبل الهداية فعالية ونجاعة، كما يؤكد الله تعالى على أنها تجاوزت بشموليتها المحدودية في الزمان والمكان والمواضيع، وهذا يعني مما لا شك فيه أنها أقصر الطرق وأكثر الوصفات الطبية فعالية ونجاحا والكفيلة بهداية الناس إلى دين الفطرة الإبراهيمي.

أما عن النجاة، فلم يحصرها الله تعالى في الشريعة المحمدية بل أكد على أن كل من استطاع بلوغ الهداية الإبراهيمية مهما كانت شرعته ومنهاجه فهو من الناجين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يقول تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ”

إن النظر للإسلام بهذا المنطق الرباني يجعله في منأى عن أية مقارنة مسيئة مذلة، كما يرفعه لدرجة الدين الرباني الوحيد الأزلي الأبدي الشامل الكامل المهيمن في الوقت الذي يوقع باقي المناهج الدينية في مستنقع الجدال الأرضي، والإختلاف البشري الذي يبرأ الله بنفسه عنه. وهذا مفاد قوله تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ”.
فالإسلام أكبر من أن يصنف في خانة من الخانات كدين من الأديان، بل هو الدين الذي يشمل كل الشرائع والمناهج وهو الأصل الذي ينبغي أن تقاس على أساسه أصالة المناهج وصلاحيتها.

والله أعلى وأعلم.